(4) عشرة أسباب تعين على الصبر عن المعصية (3/3)

عبد العزيز بن داخل المطيري

بقية الأسباب العشرة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله والتي تعين على الصبر عن المعصية.

  • التصنيفات: التقوى وحب الله -

السبب الثامن: قِصَرُ الأملِ، وعلمُهُ بسرعةِ انتقالِهِ، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مُزمع على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها؛ فهو لعلمه بقلَّةِ مقامه وسرعة انتقاله حريصٌ على ترك ما يثقله حَمْلُه، ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته؛ فليس للعبد أنفع من قصر الأمل، ولا أضرَّ من التسويف وطول الأمل.

السبب التاسع: مجانبةُ الفضولِ في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس؛ فإنَّ قوَّةَ الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات؛ فإنها تطلب لها مصرفا؛ فيضيق عليها المباح فتتعدّاه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالتُه وفراغُه؛ فإنَّ النفسَ لا تقعُدُ فارِغَةً، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغَلتْهُ بما يضرُّه ولا بد.

السبب العاشر وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: ثباتُ شجرةِ الإيمانِ في القلبِ؛ فَصَبْرُ العبدِ عن المعاصي إنما هو بحسب قوَّةِ إيمانه؛ فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر؛ فإنَّ من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله، وباشر قلبَه الإيمانُ بالثواب والعقاب والجنة والنار امتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم، وَمَنْ ظنَّ أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط.

فإذا قوي سراجُ الإيمانِ في القلبِ وأضاءَتْ جهاتُه كلُّها به، وأشرق نوره في أرجائه سرى ذلك النور إلى الأعضاء وانبعث إليها؛ فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة، بل تفرح بدعوته حين يدعوها كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته؛ فهو كلَّ وقتٍ يترقَّب داعيه ويتأهب لموافاته، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة من الآية:105].


فصل:

والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة هذه الأسباب، ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، ومن أقوى أسبابها الإيمان والمحبة؛ فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.

وهاهنا مسألة تكلم فيها الناس: وهي أيُّ الصبرينِ أفضل؟ صبرِ العبدِ عن المعصيةِ أم صبره على الطاعة؟
فطائفة رجحت الأول، وقالت الصبر عن المعصية من وظائف الصديقين؛ كما قال بعض السلف: "أعمال البِرِّ يفعلها البَر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صديق".

قالوا: ولأن داعيَ المعصيةِ أشدُّ من داعي تركِ الطاعةِ؛ فإن داعي المعصية إلى أمرٍ وجوديٍّ تشتهيه النفس وتلتذُّ به، والداعي إلى ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريب أن داعي المعصية أقوى.

قالوا: ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعي النفس والهوى والشيطان وأسباب الدنيا وقرناء الرجل وطلب التشبه والمحاكاة وميل الطبع، وكلُّ واحد من هذه الدواعي يجذبُ العبد إلى المعصية، ويطلب أثره؛ فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟!

فأيُّ صبرٍ أقوى مِنْ صَبْر مَنْ صَبَر عن إجابتها؟!
ولولا أن الله يصبّره لما تأتَّى منه الصبرُ!

وهذا القول كما ترى حجته في غاية الظهور، ورجحت طائفة الصبر على الطاعة بناءً منها على أنَّ فعل المأمور أفضل من ترك المنهيات، واحتجت على ذلك بنحو من عشرين حجة.

ولا ريب أنَّ فعلَ المأموراتِ إنَّما يتمُّ بالصبر عليها؛ فإذا كان فِعْلُها أفضلَ كان الصبرُ عليها أفضلَ.

وفصل النزاع في ذلك: أن هذا يختلف باختلاف الطاعةِ والمعصيةِ؛ فالصبرُ على الطاعة المعظَّمة الكبيرةِ أفضلُ من الصبر عن المعصيةِ الصغيرة الدنيَّة، والصبرُ عن المعصيةِ الكبيرةِ أفضلِ من الصبرِ على الطاعةِ الصغيرة، وصبرُ العبد على الجهادِ مثلا أفضلُ وأعظمُ من صبرِه عن كثيرٍ من الصغائر، وصبرُه عن كبائرِ الإثم والفواحش أعظمُ من صبرِه على صلاةِ الصبح، وصومِ يومٍ تطوعًا ونحوه؛ فهذا فَصْلُ النزاعِ في المسألةِ، والله أعلم".