محدث الشام ومحدث العصر (1)

منذ 2015-12-25

محمد ناصر الدين الألباني (1333هـ/1914م-1420هـ/ 1999م)

العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أحد أبرز العلماء المسلمين في العصر الحديث، ويعتبر الشيخ الألباني من علماء الحديث البارزين المتفردين في علم الجرح والتعديل، والشيخ الألباني حجة في مصطلح الحديث وقال عنه العلماء المحدثون إنه أعاد عصر ابن حجر العسقلاني والحافظ بن كثير وغيرهم من علماء الجرح والتعديل.

مولده ونشأته
هو الشيَّخ المحدِّث محمد ناصر الدِّين بن نوح نجاتي بن آدم، والملقِّب بالألباني نسبة إلى بلده ألبانيا، والمكنَّى بأبي عبد الرحمن أكبر أبنائه. وقد أضاف إلى اسمه اسم محمد لما في اسمه الذي سمي به من تزكية، فكان أحق الناس أن يكون ناصر الدين هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

ولد الشيخ الألباني عام (1333هـ) الموافق (1914م) في مدينة «أشقودرة» عاصمة دولة ألبانيا -حينئذ-، وقد نشأ العلَّامة الألباني في بيت فقير ولكنه بيت دين وعلم، فقد تخرَّج والده في معاهد إسطنبول الشَّرعية، وعاد إلى بلاده لخدمة الدِّين وتعليم النَّاس حتى غدا مرجعاً يتوافد عليه طلَّاب العلم للأخذ عنه حتى هاجر فراراً بدينه من حكم الطَّاغية (أحمد زاغو) ملك ألبانيا، الذي اقتفى أثر الماسوني (أتاتورك) في تغريب البلاد، ومحاربة الإسلام والتبعية للغرب، وإلغاء الحجاب الإسلامي، وغير ذلك، ولجأ إلى دمشق التي كان قد زارها في أثناء رحلته للحجِّ في ذهابه وإيابه.

لما وصل الشَّيخ الألباني مع والده إلى دمشق، كان على مشارف التَّاسعة من العمر، فأدخله والده في مدرسة (جمعيَّة الإسعاف الخيري) حتى أتمَّ المرحلة الابتدائيَّة فيها بتفوُّق.

ونظراً لرأي والده الخاص في المدارس النظامية من الناحية الدينية، فقد قرر عدم إكمال الدراسة النظامية ووضع له منهجاً علمياً مركزاً قام من خلاله بتعليمه القرآن الكريم، والتجويد، والنحو والصرف، وفقه المذهب الحنفي، وقد ختم الألباني على يد والده حفظ القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم، كما درس على الشيخ سعيد البرهاني مراقي الفلاح في الفقه الحنفي وبعض كتب اللغة والبلاغة، هذا في الوقت الذي حرص فيه على حضور دروس وندوات العلامه بهجة البيطار.

أخذ عن أبيه مهنة إصلاح الساعات فأجادها حتى صار من أصحاب الشهره فيها، وأخذ يتكسب رزقه منها، وقد وفرت له هذه المهنه وقتاً جيداً للمطالعة والدراسة، وهيأت له هجرته للشام معرفة باللغة العربية والاطلاع على العلوم الشرعية من مصادرها الأصلية.

توجهه إلى علم الحديث
على الرغم من توجيه والد الألباني المنهجي له بتقليد المذهب الحنفي وتحذيره الشديد من الاشتغال بعلم الحديث، فقد أخذ الألباني بالتوجه نحو علم الحديث وعلومه، فتعلم الحديث في نحو العشرين من عمره متأثراً بأبحاث مجلة المنار التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- وكان أول عمل حديثي قام به هو نسخ كتاب «المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار» للحافظ العراقي -رحمه الله- مع التعليق عليه.

وفي ذلك يقول الشيخ الألباني: (أول ما ولعت بمطالعته من الكتب القصص العربية كالظاهر وعنترة والملك سيف وما إليها ثم القصص البوليسية المترجمة كأرسين لوبين وغيرها، وذات يوم لاحظت بين الكتب المعروضة لدى أحد الباعة جزءا من مجلة المنار فاطلعت عليه ووقعت فيه على بحث بقلم السيد رشيد رضا يصف فيه كتاب الإحياء للغزالي، ويشير إلى محاسنة ومآخذه .. ولأول مرة أواجه مثل هذا النقد العلمي فاجتذبني ذلك إلى مطالعة الجزء كله ثم أمضي لأتابع موضوع تخريج الحافظ العراقي على الإحياء ورأيتني أسعى لاستئجاره لأني لا أملك ثمنه، ومن ثم أقبلت على قراءة الكتب، فاستهواني ذلك التخريج الدقيق حتى صممت على نسخه).

كان ذلك العمل فاتحة خير كبير على الشيخ الألباني حيث أصبح الاهتمام بالحديث وعلومه شغله الشاغل، فأصبح معروفاً بذلك في الأوساط العلمية بدمشق، حتى إن إدارة المكتبة الظاهرية بدمشق خصصت غرفة خاصة له ليقوم فيها بأبحاثه العلمية المفيدة، بالإضافة إلى منحه نسخة من مفتاح المكتبة ليدخلها وقت ما شاء.

وقد حدَّث هو عن ذلك قائلاً: «إن نعم الله علي كثيرة لا أحصي لها عدداً، ولعلَّ من أهمها اثنتين: هجرة والدي إلى الشَّام، ثم تعليمه إياي مهنة تصليح السَّاعات.

أما الأولى: فقد يسرت لي تعلُّم العربية، ولو ظللت في ألبانيا لما تعلَّمت منها حرفاً، ولا سبيل إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا عن طريق العربية.

وأما الثانية: فقد قيضت لي فراغاً من الوقت، أملؤه بطلب العلم، وأتاحت لي فرصة التردُّد على المكتبة الظاهريَّة وغيرها ساعات من كل يوم».

جهده في طلب العلم
ونذكر في ذلك حادثتين:
«الأولى»: أنه أصيب في عينه أيامه الأولى في الشام، وطلب منه الطبيب أن يمكث شهراً لا يعمل بمهنة الساعات، ولا يقرأ شيئاً! فمكث أياماً، ثم أصابه الملل، فطلب من بعض إخوانه أن ينسخ له من المكتبة الظاهرية في دمشق كتاب «ذم الملاهي » لابن أبي الدنيا.

فنسخ الناسخ حتى وصل إلى مكان فيه ورقة ضائعة، قطعت اتصال الكلام، فلما أخبر الشيخ بذلك طلب إليه الشيخ أن يستمر بالنسخ، فلما فرغ الناسخ وانتهت مدة العلاج؛ ذهب الشيخ يبحث عن تلك الورقة الضائعة في المكتبة الظاهرية، فظل الشيخ ينقب عن تلك الورقة، فلم يجدها، وفي تلك الأثناء كان يدون الأحاديث التي يقف عليها في المخطوطات، حتى دوَّن أكثر من أربعين مجلداً من الأحاديث بخط يده!! وكان عدد المخطوطات آنذلك حوالي عشرة آلاف مخطوطة!!

«الثانية»: وقد بلغت الهمة والجلَد عند الشيخ - رحمه الله - أنه كان ينسى معهما الطعام والشراب، فكان يأتي إلى مكتبة الظاهرية قبل موظفيها، ويخرج بعدهم!!

ويأتيه أهله بطعام الإفطار، فيظل على ما هو عليه إلى موعد الغداء، فيؤخذ طعام الإفطار ويوضع طعام الغداء! وهكذا مع العَشاء.

وقد ظل الشيخ الإمام - رحمه الله - على هذه الهمة إلى أن توفاه الله، فإذا كان يعجز عن البحث قرأ، فإذا عجز عن القراءة قُرِأ عليه.

ومن رأى همة الشيخ ونشاطه قبل مرضه الأخير لم يفرق بين أول حياته وبين هذه الأيام.
وإذا قيل للشيخ في رحلاته أن يرتاح، قال: إن راحتي في الكلام والبيان!! لا في السكوت.

________________

جمع وترتيب: د/ خالد سعد النجار

[email protected]

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 1,859

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً