تفسير آية: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم...}

عبد القادر بن شيبة الحمد

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ...}

  • التصنيفات: التفسير -

تفسير آية:

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ....}

 

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}  [التوبة: 111، 112].

 

سببُ النزول: أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال عبدالله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم»، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «الجنة»، قالوا: ربِح البيع لا نقيل ولا نستقيل؛ فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ}، وعلى هذا فهي مكية، علمًا بأنه ذكر فيها القتال، وهو لم يشرع إلا في المدينة، وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ما يفيد أنها نزلت بالمدينة.

 

والغَرَض الذي سِيقَتْ له: الترغيب في الجهاد وفِعل الخير.

 

ومناسبتها لما قبلها: أنه لما شرح أحوال المتخلفين عن الجهاد بيَّن فضل المجاهدين، ومعنى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}؛ أي: إن الله عوَّض المؤمنين في مقابلة بذلهم أنفسهم وأموالهم بأنهم يدخلون الجنة ويختصون بها، والتعبير بقوله: {اشْتَرَى} مع أنه يملك أنفسهم وأموالهم لما في هذه الصورة مِن المعاوضة، وللتنبيه على مزيد كرمه ولطفه.

 

و(الباء) في قوله: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} داخلة على عِوَض المبيع، وإنما قال: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} ولم يقل: بالجنة، إشارة إلى اختصاصهم بهذا الثمن، وأنه مؤجل.

 

وقوله: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه} استئناف بياني؛ كأن سائلًا قال: كيف باعوها؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله.

وإظهار اسم الجلالة لتربية المهابة.

 

وقد قرئ {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} بتقديم المبني للمجهول ولا إشكال فيه؛ لأن الواو لمطلق الجمع، مع أن فيه إشارة إلى أنه لا يشترط في كل قتيل أن يُقتل، بل من حصل منه القتل أو حصل عليه القتل، فإنه يحصل على هذا الثواب ويتم بيعه.

 

وقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}:

وعدًا وحقًّا مصدران منصوبان بفعله المحذوف، والتقدير: وعدهم وعدًا، وحق ذلك الوعد حقًّا؛ أي: تحقق وثبت.

ويجوز أن يكون (حقًّا) صفة لـ(وعدًا).

 

وقوله: {فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، متعلق بمحذوف صفة لـ (وعدًا) أي: وعدًا مذكورًا وكائنًا في التوراة والإنجيل والقرآن، وعلى هذا فيكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكورًا في كتاب موسى وكتاب عيسى وكتاب محمد صلى الله عليه وسلم، التي أنزلت عليهم.

 

ويجوز أن يكون متعلقًا بـ(اشترى)، وعلى هذا فيكون أهل الكتب المذكورة قد أُمروا بالجهاد ووعدوا عليه الجنة.

 

وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} استفهام بمعنى النفي؛ أي: لا أحد أوفى بعهده من الله، والجملة اعتراضية لتقرير مضمون ما قبلها من حقية الوعد.

 

والفاء في قوله: {فَاسْتَبْشِرُوا} لترتيب الاستبشار على الوعد المذكور.

 

ومعنى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}؛ أي: سروا وافرحوا فرحًا يظهر أثره على بشرتكم بسبب هذه المبايعة.

 

والإشارة في قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} للحصول على الجنة في مقابلة أنفسٍ هو مالكها وأموال هو رازقها، والتعبير بـ(ذلك) التي للبعيد لتفخيم المشار إليه.

 

وقوله: {التَّائِبُونَ.. . إلى آخر الآية، يجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره: هم التائبون، وعلى هذا فالأوصافُ المذكورة مِن تمام ما قبلها، وأن شروط البيعة لا تتحقق إلا بهذه الصفات.

 

ويجوز أن تكون مستأنفة، والتائبون مبتدأ، خبره محذوف تقديره: لهم الجنة كذلك.

 

وقد ذكر في هذه الآية تسعة أوصاف؛ الستة الأولى تتعلق بالخالق، والسابع والثامن يتعلقان بالمخلوق، والتاسع يتعلق بهما.

والتائبون هم: الراجعون إلى مرضاة الله.

و{العابدون}: الخاضعون للرب المحبون له.

و{الحامدون}: الراضون بقضاء الله، الشاكرون لأنعمه.

و{السائحون}: قيل: هم الصائمون، وقيل: المهاجرون.

و{الراكعون الساجدون}: هم المصلُّون، والتعبير بذلك لبيان شرف هذين الوصفين.

و{الآمرون بالمعروف}: الذين يطلبون فِعل الخير.

و{الناهون عن المنكر}: الذين يطلبون الكفَّ عن الشر، وعطف هذا الوصف على ما قبله؛ قيل: لما بينهما من التضاد؛ إذ الأول طلب الفعل، والثاني طلب الترك.

 

وقيل: للدلالة على أنَّ المتعاطفين بمنزلة خصلة واحدة؛ كأنه قال: والجامعون بين هذين الوصفين، وقيل: هي واو الثمانية؛ لأن العرب كانوا إذا وصلوا في عدهم إلى الثمانية جاؤوا بالواو، وجعلوا مِن ذلك قوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}  [الكهف: 22] وقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5]، وقوله تعالى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}؛ أي: القائمون بحفظ شرائعه.

 

وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} تذييلٌ لزيادة مسرتهم، وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على سبب سعادتهم وبيان الشرط الأساسي لقبول أعمالهم.

 

الأحكام:

1- جواز معاملة السيد لعبده.

2- جواز البيع بالثمن المؤجل.

3- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم القرب.

4- أنه لا يُقبل عمل دون الإيمان.