الحضارة الحديثة نعمة أم نقمة على العربية؟

أحمد علوان

إنَّ القيم الروحية أهمُّ ما يُميز الحضارةَ الإسلامية عن غيرها من الحضارات، لكنَّ الحضارة الحديثة حينما أطلتْ برأسها كانت ذاتَ أثر واضح في تَخلِّي كثير من المجتمعات الإسلامية عن قيمها سعيًا وراء قيم الحضارة الحديثة.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - اللغة العربية -

إنَّ القيم الروحية أهمُّ ما يُميز الحضارةَ الإسلامية عن غيرها من الحضارات، لكنَّ الحضارة الحديثة حينما أطلتْ برأسها كانت ذاتَ أثر واضح في تَخلِّي كثير من المجتمعات الإسلامية عن قيمها سعيًا وراء قيم الحضارة الحديثة.

 

وإنْ جاز لنا أن نعتبر الاعتزاز بعربيتنا من قيمنا، حقَّ لنا أنْ نقول: إنَّ أولى القيم التي تخلينا عنها الاعتزاز باللغة العربية، فقد تخلينا عن العربية إلى غيرها من لغات الأمم التي سبقتنا بعلمها وحضارتها، وهو أمر يبدو منطقيًّا؛ إذ الأمة التي تصنع الحضارة تفرض لغتها ومسمياتها على الأمم التي تشاركها في الاستهلاك.

 

ولأنَّ اللغة بطبيعتها لا تتوقف عن التطور، فقد تطورَتِ العربية والتقتْ بغيرها من اللغات فأثَّرتْ فيها وتأثَّرَتْ بها، وكان للحضارة الحديثة أثرها البالغ في إعلاء لغات الأمم التي صنعت الحضارة، وفرضها على غيرها من لغات الأمم التي اقتصر دروها على تلقي ما أنتجته الحضارة.

 

ومن الإنصاف أنْ نقرر أنَّ تأثُّر العربية بالحضارة الحديثة لا يمكن حملُه جميعه على الجانب السلبي؛ فقد أفادَتِ العربية منه في بعض جوانبها، بينما لحقها الضرر في جوانب أخرى، ومن التأثيرات الإيجابية على اللغة العربية:

 

أنَّ كثيرًا من ألفاظ اللغة العربية قد اكتسبتْ دلالاتٍ جديدةً مع احتفاظها بدلالاتها القديمة[1]، ومن تلك الألفاظ:

البسيط: فهذا اللفظ يُذكر في عصرنا من قبيل الصفة ويُقصد به السهل، فيقال: أمرٌ بَسيطٌ: أي سهل، ولكنها في المعاجم العربية تفيد معنًى آخر، فالبَسيطة: الأَرض العَريضة الواسعة، وتبَسَّط في البلاد: أَي سار فيها طولًا وعَرْضًا[2].

 

احتجَّ: يرد هذا الفعل في لغتنا اليوم بمعنى استنكر واعترض، وهذا المعنى مُخالِفٌ للاستعمال اللُّغوي الذي نجده في معاجم العربية، إذ تورد المعاجم (احتجَّ) بمعنى آخر، فيقال: احْتَجَّ بالشيءِ: اتخذه حُجَّة[3]، وواضح ما بين المعنيين من خلاف، وإنْ كان اللفظ قد اكتسب الدلالة الجديدة ولم يفقد دلالته القديمة.

 

والفعل (شَجَبَ): يُستخدم في حديثنا اليوم وبشكل شائع في وسائل الإعلام المختلفة بمعنى استنكر الأمر ورفضه، وتلك دلالةٌ جديدة على هذا الفعل لم تعرفها معاجم العربية؛ إذ معناه في المعجم: حزن وهلك، فقد جاء في لسان العرب: شَجَبَ، بالفتح، يَشْجُبُ، بالضم، شُجُوبًا، وشَجِبَ، بالكسر، يَشْجَبُ شَجَبًا، فهو شاجِبٌ وشَجِبٌ: حَزِنَ أَو هَلَكَ.

 

وهذا قليل من كثير، فهناك العديد من ألفاظ العربية اكتسبت دلالاتٍ جديدة في عصرنا الحاضر إضافةً إلى دلالاتها القديمة، ومما يُعد كذلك أثرًا إيجابيًّا للحضارة الحديثة: انتقال علوم بمسمياتها إلى العربية، فقد ظهرتْ مع بزوغِ شمسِ الحضارة الحديثة علوم لم يكن لها أسماء معروفة لدى العرب، فتُرجمت إلى العربية نحو: علم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وعلم الإحصاء، وغيرها من العلوم التي لم تكن موجودة بأسمائها في العربية[4].

 

أمَّا على الجانب الآخر، فقد أُصيبتْ العربية بأضرارٍ نالتْ منها بفعل الحضارة الحديثة أيضًا، فقد أُغرقتْ العربية بسيلٍ من الألفاظ والمصطلحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أنتجتها حضارة الغرب، ولم تستطع مجامع اللغة العربية رغم كل جهودها أنْ توقف هذا السيل، فدخلتْ تلك المصطلحات العربية واختلطتْ بها حتى ظنها أبناء اللغة جزءًا أصيلًا منها، ومن بينها: الأرستقراطية، والاشتراكية، والراديكالية، والديمقراطية، وغيرها الكثير.

 

كما أنَّ اللغة العربية التي كُتب لها أنْ تَستوعبَ كتاب الله تعالى، وتستوعب مختلف العلوم، وتصبح لغة الأدب والسياسة في البلاد التي فتحها المسلمون على مدى قرون عديدة، رأيناها تتراجع أمام بعض اللغات التي قُدِّر لها الذيوع؛ لما حملته إلينا من علم وحضارة، وظهر ذلك في أمور عديدة، في مقدمتها: التوسع في تدريس العلوم باللغات الأجنبية؛ ظنًّا منا أنَّ ذلك يزيد فُرَصَ التقدم العلمي لدينا، ويمنحنا القدرة على مواكبة الجديد في العلم.

 

والحقيقة التي ينبغي أنْ نلتفت إليها أن التوسع في دراسة العلوم باللغات الأخرى له سلبياته، فهو من جانب يجعل هذه العلوم مقصورةً على مَن يُجيدون تلك اللغات، ويَنال من مكانة العربية من جانب آخر؛ إذ يقدم بين طياته تبريرًا لمن يتهمون العربية بعجزها عن استيعاب العلوم الحديثة، بينما تعلُّمُ تلك العلوم بلغتنا - بلا شكٍّ - يوسع القاعدة العلمية لدى أبناء الأمة، وانظر إن شئتَ إلى الدول المتقدمة في مجال العلم، سواء كانت لغتها الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو حتى العبرية، تجدها تقوم بتدريس علومها في مدارسها وجامعاتها بلغتها الأم.

 

ولستُ أبغي من وراء ذلك الدعوة إلى الإحجام عن تعلم اللغات الأخرى، أو التقليل من شأنها، بل على النقيض من ذلك أُنبه إلى أهمية تعلم اللغات الأجنبية وإجادتها، لكن ليمضي ذلك جنبًا إلى جنبٍ مع الحرص على إجادة العربية وإتقانها، فاللغة العربية جديرة بأنْ نتمسك بها، ونعتز بالانتساب إليها، أليست أوفى اللغات وأكمَلَها؟

 

ويكفي الإشارة في هذا الصدد إلى ما ذكره العقاد من دليل يؤكد أنَّ عربيتنا أوفى اللغات من حيث ألفاظها وقواعدها، مشيرا إلى مقياسٍ يسير يمكننا التحقق منه، هذا المقياس هو جهاز النطق لدى الإنسان، فإنَّ اللغة العربية تستخدم هذا الجهاز على أتمه وأحسنه؛ إذ لا تُهمل وظيفة واحدة من وظائفه كما يحدث ذلك في أكثر اللغات، فلا نجد في حرف من حروف العربية التباس بين مخرجين، ولا في مخرج من مخارجها بين حرفين[5].

 

أضف إلى هذا ما خلقته الحضارة الحديثة من إعجاب بالأمم الأخرى وبلغاتها، ومن ثَمَّ تولد لدى الكثيرين الشعور بأنَّ لغاتها هي الأمل، وهي لغات المستقبل، والطريق لخلق فرص أفضل للعمل المتميز، فأقبلنا عليها في حب وانبهار على حساب العربية، بل صار بعض الواهمين يؤمن بأنَّ إقحام بعض الكلمات الأجنبية في حديثه دليلٌ على الرقي، ومؤشرٌ للتحضُّر.

 

كما اعتقد الكثيرون منا بأنَّ إطلاق الأسماء الأجنبية على مؤسساتهم وشركاتهم يمنحها ثقة أكبر، ويُعلي من قدرها، فأغرقوا الأمة بسيل جارف من الأسماء الأجنبية التي نراها في كل بقعة من وطننا العربي.

 

فهل يليق بأمة العربية أنْ تكون في ذيل الأمم؟ هل يجدر بها أنْ تهجر لغتها التي شهد لها المنصفون من غير أبنائها بالسبق والريادة، فلقد قال جول فرن حينما سئل عن سر اختياره للعربية: "إنَّها لغة المستقبل، ولا شكَّ أنَّه يموت غيرها، وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه"[6].

 

فمتى نعي الدرس؟

 


[1] العربية تواجه العصر، إبراهيم السامرائي، منشورات دار الجاحظ للنشر، بغداد عام 1982، ص141 وما بعدها.

[2] لسان العرب لابن منظور (مادة: بسط).

[3] لسان العرب لابن منظور (مادة: حجَّ).

[4] العربية تواجه العصر، ص44.

[5] أشتات مجتمعات في اللغة والأدب، عباس محمود العقاد، دار المعارف، القاهرة، الطبعة: السادسة (د.ت)، ص11.

[6] القياس في اللغة العربية، محمد الخضر حسين، المطبعة السلفية، 1353هـ، ص 12.