خطر الشذوذ

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "نجاسة الزنا واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدًّا؛ ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركًا".

  • التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -

أيها المسلمون، إن رأس المال الذي لا غنى عنه لعبد في كل وقت تحقيقُ العبودية، وتمحيص التوحيد لله سبحانه، فعلى ذلك فَطَرَ الله الناس، وبذلك أمرهم؛ ولأجل ذلك بعث المرسلين في كل أمة وُجِدت على وجه البسيطة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]؛ ولذا كان كل نبي يبعثه الله إلى قوم، يبادر إلى أمْرِهم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له؛ قائلًا لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

 

وبعد بيان ذلك وإقامة البراهين عليه، يُعرِّج كل نبي على أبرز المعاصي والمخالفات التي يقع فيها قومه، فيحذرهم منها، ويبيِّن لهم عاقبتها وخطورة أمرها، فمن تاب وأناب، تاب عليه ربه وأنجاه: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت: 18].

 

ومن كَفَرَ واستكبر، وطغى وتجبَّر، وعصى المرسلين، واستمرَّ في غَيِّه وعدوانه، حاق به العذاب الأليم بصنوف وأشكال يقدرها الله القوي العزيز؛ {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].

 

وقد حكى الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم قصصَ أولئك الأقوام الذين عصَوا ربهم واستكبروا؛ لتحذر ذلك المصير، وتأخذ العِظة والعبرة من أولئك الأقوام العُصاة، الذين نزل بهم بأس الله الشديد، قوم كفروا بربهم، وزادوا على الكفر ارتكاب فاحشة لم يُسبقوا إليها، خالفوا فيها الفطرة التي فطر الله الخلق عليها، فوقعوا في تلك الفاحشة العظيمة والفعلة القبيحة، التي تأنَف منها المخلوقات، حتى البهائم العجماوات لم تصنع صنيعهم، ولم يَزَل نبيهم عليه السلام يحذرهم ويُنذرهم، ويُذكِّرهم بربهم، ويُبيِّن لهم شناعة ما اقترفوه وولغوا فيه، فمرَّةً يقول لهم كما حكى الله تعالى عنه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 80، 81]، ومرة يقول:  {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 54، 55]، ولكنهم لم ينتهوا، بل طغَوا واستكبروا وتحدَّوا: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، فلما نكَصُوا على أعقابهم، وأصروا على كفرهم ومعصيتهم، جاء القَدَرُ المقدور، والأمر الذي لا يُرَدُّ من رب العالمين، فعُذِّبوا وأُهْلِكوا بعذاب لم يسبق مثله لأُمَّة من الأمم؛ جزاءً لهم على كفرهم وفعلهم هذه الفاحشة التي لم يُسبَقوا إليها: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82، 83].

 

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82]، وأمطرنا عليها حجارة من طين مُعَدَّة لذلك، قوية شديدة يَتْبَعُ بعضها بعضًا في نزولها عليهم، وفي رواية عن قتادة وغيره: بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح، نشر جناحه، فانتسف بها أرضهم بما فيها؛ من قصورها، ودوابها، وحجارتها، وشجرها، وجميع ما فيها، فضمها في جناحه، فَحَوَاها وطواها في جوف جناحه، ثم صعِد بها إلى السماء الدنيا، حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألف، ثم قَلَبها، فأرسلها إلى الأرض منكوسة، ودَمْدَمَ بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتْبعها حجارة من سجِّيل، وذَكَروا أنها نزلت على أهل البلد وعلى المتفرقين في القرى مما حولها، فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدث، إذ جاءه حَجَرٌ من السماء، فسقط عليه من بين الناس، فدمَّره، فتَتْبَعهم الحجارة من سائر البلاد، حتى أهلكتهم عن آخرهم، فلم يبقَ منهم أحد"؛ [انتهى كلامه باختصار].

 

أيها المسلمون، إن لذلك الفعل القبيح أضرارًا تعود إلى الدين وإلى النفس والخُلُق؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "نجاسة الزنا واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدًّا؛ ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركًا".

 

ومن الأضرار الخلقية لتلك الفاحشة: قلة الحياء، وسوء الخلق، وقسوة القلب، وقتل المروءة والشهامة، وذهاب الغَيرة والنَّخوة والكرامة، وإِلْفُ الجريمة والتساهل فيها، وانتكاس الفطرة، وذهاب الجاه وسقوط المنزلة، وسواد الوجه وظلمته، حتى لَيكاد يُعرَف من يقوم بهذا الفعل؛ كما قال القائل:

وعلى الفتى لطباعه   سِمَةٌ تَلُوح على جبينِهِ 

 

ومن أضرارها على المجتمع: حلول العقاب إذا ظهر هذا الأمر، ولم يُنكَر، وزوال الخيرات، ومَحْقُ البركات، وشيوع الفوضى، وتفسُّخ المجتمع، وتفكُّك الأُسَرِ، وعزوف الرجال عن الزواج، وقلة النسل.

 

ومن أضراره أيضًا: ظهور الأمراض والأوجاع التي لم تكن فيمن سبق؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضَوا»؛ (أخرجه ابن ماجه من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني).

 

ولها أيضًا أضرار على النفس بملازمة الحزن والقلق، ووجود الوحشة والاضطراب، وخوف العقاب والفضيحة، إلى غير ذلك من الأضرار التي يقدرها الله تعالى لمن ارتكست فطرته، وزالت غَيرته، واستهان بمعصية ربه.

 

وللوقوع في هذه الفاحشة أسباب تجُرُّ إليها، لا يَسَعُ المقام ولا يناسب في تفصيلها، ولكن الحُرَّ العاقل تكفيه الإشارة، فمن ذلك ضعف الإيمان الذي يعمُر القلب ويمنعه من المعصية، ومن ذلك ترك الصلاة أو التهاون فيها؛ فالله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

 

ومن أسباب الوقوع في تلك الفاحشة: تفكُّك البيوت، ووجود الطلاق أو الشِّقاق بين الوالدين، ومن ذلك غفلة الصالحين والمعلِّمين، وأئمة المساجد والدعاة عن التنبيه على هذا المنكر العظيم بالأسلوب الحسن، وأعظم من ذلك التغاضي عن مثل تلك الممارسات، وترك الحزم في مواجهتها وفق المنهج الشرعي في علاجها.

 

إن ديار قوم لوط يا عباد الله ليست ببعيدة: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138]، وستبقى بحيرةُ قوم لوط عِبْرَةً للظالمين، أينما وُجِدوا، وحيثما كانوا.

 

وإن من أبشع أنواع الحماقة - أيها المؤمنون - أن يغفُلَ الناس عن قدرة الله عز وجل، وشدة بطشه، ويركنوا إلى حَولِهم وقوتهم، وعلينا - يا عباد الله - أن نتذكر أن الله جلَّت قدرته الذي أهلك قوم لوط بثوانٍ معدودات قادر على إهلاك وتمزيق كل مجتمع، لا يهتدي بهديه مهما قويت شوكتهم، وكثُر عددهم، وتزايد بطشهم؛ قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10].

 

عباد الله: هذه نُتَفٌ وإشارات علَّها تُذكِّر أو تنبِّه، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، نسأل الله تعالى أن يطهر مجتمعات المسلمين من كل فاحشة ومنكَرٍ، اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نستغفرك ونتوب إليك.

 

 

فلنحذر هذا الصنيع يا عباد الله؛ واسمعوا ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله معلقًا: "وقوله: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]؛ أي: وما هذه النقمة ممن تشبَّه بهم في ظلمهم ببعيد عنه، وقد ورد في الحديث المروي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به»، وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يُقتَل، سواء كان محصنًا، أو غير محصن؛ عملًا بهذا الحديث، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يُلقَى من شاهق، ويُتْبع بالحجارة؛ كما فعل الله بقوم لوط، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب".

 

واعلم أن الصحابة رضي الله عنهملم يختلفوا في أنَّ حُكْمَ مَن فَعَلَ تلك الفاحشة القتلُ، ولكن اختلفوا في كيفيته؛ وإليك ما قاله الإمام الشوكاني رحمه الله حول عقوبة مَن فَعَلَ ذلك: "وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرةً للمعتبرين، ويعذب تعذيبًا يكسِر شهرة الفَسَقَةِ المتمردين، فحقِيقٌ بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يُصلَى بما يكون في الشدة والشناعة مشابهًا لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بِكْرَهم وثيِّبَهم".

 

وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "وقال بعض العلماء: إذا علا الذَّكَر هربت الملائكة، وعجَّت - صاحت - الأرض إلى ربها، ونزل سخط الجبار جل جلاله عليهم، وغشيتهم اللعنة، وحفت بهم الشياطين، واستأذنت الأرض ربها أن تخسف بهم، وثقُل العرش على حملته، وكبَّرت الملائكة، واستعرت الجحيم، فإذا جاءته رُسُلُ الله لقبض روحه نقلوها إلى ديار إخوانهم، وموضع عذابهم، فكانت روحه بين أرواحهم، وذلك أضيق مكانًا وأعظم عذابًا من تنُّور الزُّناة، فلا كانت لذة توجب هذا العذاب الأليم، وتسوق صاحبها إلى مرافقة أصحاب الجحيم، تذهب اللذات، وتعقب الحسرات، وتفنى الشهوة".

 

عباد الله، بعد ذكر مخاطر تلك الفواحش، وما تسبِّبه من أضرار على الفرد والمجتمع، وما قد تدفع به صاحبها إلى الخاتمة السيئة والعياذ بالله، فها هي سُبُلُ العلاج والوقاية منها ومن غيرها من الذنوب، بإذن الله تعالى:

1- تذكَّر أن الله معك ويراك في كل وقت وحينٍ، فلا تَعْصِهِ.

 

2- تذكَّر الحساب، والحساب إما يسير أو عسير، فاعمل في دنياك ليخفَّف عنك.

 

3- تذكر هذه الشهادات وأنك لن تترك سُدًى:

الشهادة الأولى: شهادة الله عليك، فالله مطَّلع عليك يراك حين تقوم، وتقلُّبك على فراشك، يرى النملة السوداء على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء.

 

الشهادة الثانية: شهادة الملائكة الكرام؛ وهما اللذان على كتفيك؛ يقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

 

الشهادة الثالثة: شهادة جوارحك عليك:

يوم أن تطلب شهيدًا عليك من نفسك فتتكلم أعضاؤك شاهدةً ناطقةً بأفعالك وأقوالك؛ يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].

 

الشهادة الرابعة: شهادة الأرض عليك: فالبقعة التي كنت تمارس عليها فعل الفواحش والحرام ستأتي يوم القيامة لتشهد عليك؛ كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4].

 

هذا، وصلوا وسلِّموا على إمام المرسلين، وقائد الغُرِّ المحجَّلين؛ فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه؛ حيث قال عز قائلًا عليمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

________________________________________________________
الكاتب: د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي