حكم عمل المسلم بالكنيس

حسام الدين عفانه

  • التصنيفات: فقه المعاملات -
السؤال:

أنا أشتغل مقاولاً في أعمال البناء وقد عُرض عليَّ بناء كنيس. فما الحكم الشرعي في ذلك؟

الإجابة:

يجب أن يعلم أولاً أن من أهم ضوابط العمل المباح في دين الإسلام أن لا يكون للعمل علاقة بعقائد غير المسلمين، كالعمل في بناء الكنس والكنائس، مهما كان هذا العمل، وكذا العمل في المدارس الدينية التي تدرس مللهم، وكذا العمل في طباعة كتبهم الدينية أو التجارة فيها، ويحرم العمل بكل ما له ارتباط بدينهم، ويدل لهذا الضابط قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وهذا مذهب جماهير الفقهاء المالكية والحنابلة وأكثر الشافعية وهو قول صاحبي أبي حنيفة: أبو يوسف ومحمد؛ فقد نصوا على تحريم بناء معابد غير المسلمين والعمل على تشييدها وإقامتها وترميمها، فمن ذلك: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما مذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووسٍ ونحوه، فقال الآمدي: لا يجوز رواية واحدة، لأن المنفعة المعقود عليها محرمة، وكذلك الإجارة لبناء كنيسة أو بيعة أو صومعة كالإجارة لكَتْبِ كُتُبهم المحرفة" (اقتضاء الصراط المستقيم 1/244). وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "... ولا على معصية كبيت النار والبيع والكنائس‏، وكتب التوراة والإنجيل لأن ذلك معصية، فإن هذه المواضع بنيت للكفر، وهذه الكتب مبدلة منسوخة، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة‏، وقال‏:‏ ‏"أفيَّ شكٌ أنت يا ابن الخطاب‏؟‏ ألم آت بها بيضاء نقية‏؟‏ لو كان موسى أخي حياً ما وسعه إلا اتباعي‏" ولولا أن ذلك معصية ما غضب منه" (المغني 6/38). والحديث المذكور في كلام ابن قدامة المقدسي حديث حسن رواه أحمد والدارمي وابن أبي عاصم وابن عبد البر كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 1589. وقال الإمام الشافعي: "وأكره للمسلم أن يعمل بنَّاءً، أو نجاراً، أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم" (الأم 4/203)، والكراهة في كلام الشافعي يقصد بها التحريم كما هو معروف في كلام السلف.

وورد في المدونة المعروفة في مذهب المالكية: "أرأيت الرجل أيجوز له أن يؤاجر نفسه في عمل كنيسة في قول مالك؟ قال: لا يحل له؛ لأن مالكاً قال: لا يؤاجر الرجل نفسه في شيء مما حرم الله. قال مالك: ولا يكري داره ولا يبيعها ممن يتخذها كنيسة" (المدونة 10/361). وقال صاحب منح الجليل شرح مختصر خليل: "ولا تجوز الإجارة على دخول حائضٍ لمسجدٍ لتكنسه لحرمة دخولها فيه، ومثلها إجارة مسلمٍ لكنس كنيسة أو رعي خنزير أو لعمل خمر فيفسخ العقد ويؤدَب إن لم يعذَّر بجهل، وإن نزل وفات فاستحب ابن القاسم التصدق بالأجرة" (16/169). وقال الحطاب المالكي: "أن يؤاجر المسلم نفسه لكنس كنيسة أو نحو ذلك، أو ليرعى الخنازير أو ليعصر له خمراً فإنه لا يجوز، ويؤدب المسلم إلا أن يتعذر بجهالة" (مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 16/187). وقال الشيخ تقي الدين السبكي: "فقد سئلت عن ترميم الكنائس أو إعادة الكنيسة المضمحلة فأردت أن أنظر ما فيها من الأدلة... وقفوت أثر عمر بن الخطاب وعدله وشروطه التي أخذها لما فتح البلاد وشيد الإسلام وأهله، وهذا الترميم يقع السؤال عنه كثيراً ولا سيما في الديار المصرية، ويفتي كثير من الفقهاء بجوازه وتخرج به مراسيم من الملوك والقضاة بلا إذن فيه، وذلك خطأ بإجماع المسلمين، فإن بناء الكنيسة حرام بالإجماع، وكذا ترميمها وكذلك قال الفقهاء: لو وصى ببناء كنيسة فالوصية باطلة، لأن بناء الكنيسة معصية، وكذا ترميمها ولا فرق بين أن يكون الموصي مسلماً أو كافراً، وكذا لو وقف على كنيسة كان الوقف باطلاً مسلماً كان الواقف أو كافراً، فبناؤها وإعادتها وترميمها معصية مسلماً كان الفاعل لذلك أو كافراً، هذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم. وهو لازم لكل مكلف من المسلمين والكفار... وجميع الشرائع نُسخت بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشرع اليوم إلا شرعه، بل أقول إنه لم يكن قط شرعٌ يسوغ فيه لأحدٍ أن يبني مكاناً يُكْفرُ فيه بالله، فالشرائع كلها متفقة على تحريم الكفر، ويلزم من تحريم الكفر تحريم إنشاء المكان المتخذ له، والكنيسة اليوم لا تتخذ إلا لذلك وكانت محرمة معدودة من المحرمات في كل ملة، وإعادة الكنيسة القديمة كذلك؛ لأنها إنشاء بناءٍ لها وترميمها أيضاً كذلك؛ لأنه جزء من الحرام، ولأنه إعانة على الحرام، فمن أذن في حرام ومن أحله فقد أحل حراماً، من توهم أن ذلك من الشرع رُدَّ عليه بقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}" (فتاوى السبكي 4/175).

وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي تحريم بناء المسلم للكنائس والإعانة على ذلك في دورة مؤتمره الثالث في عمان بالأردن سنة 1407هـ /1986م ضمن الإجابة على استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، فقد جاء في قراره: "السؤال الخامس والعشرون والسؤال السادس والعشرون: ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علماً بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟ وما حكم تبرّع المسلم فرداً كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنيسة؟ الجواب: لا يجوز للمسلم تصميم أو بناء معابد الكفار أو الإسهام في ذلك مالياً أو فعلياً". وجاء في قرارات وتوصيات المؤتمر الخامس لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا المنعقد بالمنامة- مملكة البحرين- سنة 1428هـ/2007 م: "القرار التاسع: العمل في المجال الهندسي وضوابطه عند اختلاط الحلال بالحرام خارج ديار الإسلام. لا يجوز لأصحاب شركات التصميم والإنشاء من المسلمين أن يصمموا أو يبنوا أبنية تُمَارسُ فيها المعاصي مثل الحانات وصالات القمار ومحلات بيع الخمور والمعابد التي تمارس فيها عبادات شركية، كما لا يجوز لهم تقبل مشروعات تتضمن شيئاً من ذلك". وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية: "كل دين غير دين الإسلام فهو كفر وضلال، وكل مكان يُعدّ للعبادة على غير دين الإسلام فهو بيت كفر وضلال، إذ لا تجوز عبادة الله إلا بما شرع الله سبحانه في الإسلام، وشريعة الإسلام خاتمة الشرائع، عامة للثقلين الجن والإنس وناسخة لما قبلها، وهذا مُجمع عليه بحمد الله تعالى. ومن زعم أن اليهود على حق، أو النصارى على حق سواء كان منهم أو من غيرهم فهو مكّذب لكتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد وإجماع الأمة، وهو مرتد عن الإسلام إن كان يدّعي الإسلام بعد إقامة الحُجة عليه إن كان مثله ممن يخفى عليه ذلك، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28]، وقال عز شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 158]، وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، وقال جل وعلا: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]، وثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان النبي يُبْعَث إلى قومه خاصة، وبُعثْتُ إلى الناس عامة". ولهذا صار من ضروريات الدين: تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام، ومنه تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة يهودية أو نصرانية أو غيرهما؛ لأن تلك المعابد سواء كانت كنيسة أو غيرها تعتبر معابد كفرية؛ لأن العبادات التي تُؤدى فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها والمبطلة لها، والله تعالى يقول عن الكفار وأعمالهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [الفرقان: 23]. ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء المعابد الكفرية مثل: الكنائس في بلاد المسلمين، وأنه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلد واحد من بلاد الإسلام، وألا يكون فيها شيءٌ من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها" (الفتوى رقم 21413 من فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء- السعودية). وجاء في فتوى أخرى للجنة الدائمة جواباً عن سؤالٍ عن المسلم الذي وظيفته البناء، هل يجوز له أن يبني كنيسة، فأجابت اللجنة: "لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبني كنيسةً أو محلاً للعبادة ليس مؤسساً على الإسلام الذي بعث اللهُ به محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره، والله عز وجل يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (فتاوى اللجنة الدائمة 14/482).

وخلاصة الأمر أنه يحرم على المسلم أن يعمل في بناء معابد غير المسلمين أو ترميمها أو أن يشتغل في أي عمل له ارتباط بعقيدة غير المسلمين.

تاريخ الفتوى: 20-8-2009.